بعد المداولة العدد السادس اقرأ لـ : للفقيه الدستورى أ/ حسام محفوظ المحامى ولأعلام المحامين والقُضاه

مجلة بعد المداولة العدد السادس توزّع مجاناً بمحاكم الاسكندرية اقرأ فى العدد:أهم أحكام المحكمة الدستورية لعام 2010 الأستاذ/ حسام محفوظ المحامى والفقيه الدستورى - الاوضاع الظاهرة وقضية مدينتى الأستاذ/ حسام محفوظ المحامى والفقيه الدستورى - الطعن فى دعاوى الخلع الأستاذ / مجدى عزام المحامى - ووحوار مع عضوى النقابة العامة الأستاذ/ محى الدين حسن المحامى و الأستاذ/ عاصم نصير المحامى - أثر عدم دستورية قانون 100 لسنة 1993 على النقابات المهنية الأستاذ/ حسين فتحى المحامى

    

الثلاثاء، 23 فبراير 2010

العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الأمراء

العز بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الأمراء
في تاريخنا الإسلامي الزاهر نماذج رائعة من العلماء العاملين الذين أدوا رسالتهم على أكمل وجه، فكانوا نبراساً يستضاء بهم في كل زمان، ونماذج يقتدى بها في وقت تُفتقد فيه القدوة الصالحة، والكلمة الجريئة، والمجابهة الصريحة في سبيل إعلاء كلمة الله وشيخنا العز بن عبد السلام هو من ذلك الطراز الفريد الذي يجب أن نستلهم سيرته في حياتنا المعاصرة، فقد كان هذا الرجل نموذجاً رائعاً للسياسي البارع، والعالم المستنير، والاجتماعي المخلص، المتعبد على طريقة السلف الصالح، فكان أمة في عصره أحيا الله به موات المسلمين
**ولد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (المعروف بالعز بن عبد السلام) عام 577 هـ (1181 م) في دمشق ونشأ بها، وتفقه على أكابر علمائها، فبرع في الفقه والأصول والتفسير والعربية، حتى انتهت إليه رياسة المذهب الشافعي، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصد بالفتاوى من كل مكان.. فاستحق لقب (سلطان العلماء) بجدارة كما أطلقه عليه تلميذه ابن دقيق العيد وبعد أن اكتملت ثقافته اتجه إلى التدريس والإفتاء والتأليف، وتولى المناصب العامة في القضاء والخطابة في مساجد دمشق –مسقط رأسه- أولاً، ثم في القاهرة بعد أن هاجر إليها بعد أن تجاوز الستين من عمره
** تفتحت عينا العز بن عبد السلام على أحداث جسام كان يموج بها العالم الإسلامي، وعاش ثلاثاً وثمانين سنة (ت 660هـ) عاصر فيها أحداثاً سياسية مؤلمة. فقد أدرك انتصارات صلاح الدين الأيوبي المجيدة واسترداده بيت المقدس من أيدي الصليبيين (583 هـ)، وشاهد دولة الأيوبيين في هرمها وآخر أيامها، وشاهد دولة المماليك البحرية في نشأتها وعزّها، وشاهد بعض الحملات الصليبية على فلسطين ومصر، وشاهد الهجمة التترية المغولية الهمجية على الخلافة العباسية في بغداد، وتدميرها للمدن الإسلامية، وشاهد هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين بقيادة سيف الدين قطز سلطان مصر ...شاهد شيخنا كل هذه الأحداث، فأثرت في نفسه، وراعَه تفتت الدولة الأيوبية القوية –قاهرة الصليبيين- إلى دويلات عندما اقتسم أبناء صلاح الدين الدولة بعد وفاته: فدويلة في مصر، ودويلة في دمشق، ودويلة في حلب، ودويلة في حماة، وأخرى في حمص، ودويلة فيما بين النهرين. وبين حكام هذه الدويلات تعشش الأحقاد والدسائس، والصليبيون على الأبواب، والتتار يتحفزون للانقضاض على بلاد الشام ومصر وقد كان للشيخ موقف من الملك الصالح في دمشق فإزاء هذه الأوضاع المتردية أخذ العز بن عبد السلام يدعو إلى أن يتحد سلطان الأيوبيين، وتتحد كلمة المسلمين لمواجهة الأخطار المحدقة بهم. وكانت وسيلته في ذلك الخطب على المنابر، والوعظ ونصح الأمراء، وقول كلمة الحق الجريئة التي ألزم الله بها العلماء... ولكن أنى يستجيب المتشبثون بكراسي الحكم إلى كلمة الحق، والتدبر في العواقب؟ فقد حدث في ظل هذه الأوضاع القائمة أن الملك الصالح إسماعيل الأيوبي تصالح مع الصليبيين على أن يسلم لهم صفداً وقلعة الشقيف وصيدا وغيرها من حصون المسلمين الهامة مقابل أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب! فأنكر عليه الشيخ ابن عبد السلام ذلك، وترك الدعاء له في الخطبة، فغضب الصالح إسماعيل منه، وخرج العز مغاضباً إلى مصر (639 هـ) فأرسل إليه الصالح أحدَ أعوانه يتلطف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولايَنَهُ وقال له: ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان وتقبّل يده لا غير. فقال له الشيخ بعزة وإباء العالم المسلم: يا مسكين، ما أرضاه يقبّل يدي فضلاً أن أقبّل يده! يا قوم، أنتم في واد ونحن في واد،" والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم ثم توجه إلى مصر وقد سبقته شهرته وغيرتُه الدينية وعظمته الخلُقية- فاستقبله سلطانها نجم الدين أيوب وأكرمه وولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلّده القضاء في مصر، والتف حوله علماء مصر وعرفوا قدره، وبالغوا في احترامه.. فامتنع عالم مصر الجليل الشيخ زكي الدين المنذري عن الإفتاء بحضوره احتراماً له وتقديراً لعلمه، فقال: كنا نفتي قبل حضوره، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعيّن فيه
فقد ذكر أن جماعة من أمراء المماليك –في عهد السلطان أيوب- لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلّغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي. فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع (عن قراره). فجرتْ من السلطان كلمة فيها غلطة حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد (ستة أميال) إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم. فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكُك! فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتقفوا معه أن ينادى على الأمراء (لبيعهم). فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا. فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير وقال: يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله! ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب، يبست يدُ النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله فبكى، ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خبّر، إيش (أي شيء) تعمل؟ قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فكان له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير
وهكذا تمضي حياة العز بن عبد السلام في كفاح متواصل، وتواضع جم، ونفس أبية مترفعة عن حطام الدنيا، فنال ثوابيْ الدنيا والآخرة. ويختاره الله إلى جواره، وتمر جنازته تحت القلعة بالقاهرة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها فقال لبعض خواصه اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو قال للناس: اخرجوا عليه لانتزع الملك منى رحم الله سلطان العلماء، ورادع السلاطين، ونسأله تعالى أن يرزقنا من أمثاله
اعداد
محمد مهران
المحامى

ليست هناك تعليقات: